الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال عبد الله بن المبارك:
وجملة {وهو مؤمن} حال من ضمير {وسعى}.وجيء بجملة {وهو مؤمن} اسمية لدلالتها على الثبات والدوام، أي وقد كان راسخ الإيمان، وهو في معنى قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] لما في {كان} من الدلالة على كون الإيمان ملكة له. والإتيان باسم الإشارة في {فأولئك كان سعيهم مشكورًا} للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وُصفوا به قبل ذِكر اسم الإشارة. والسعي المشكور هو المشكور ساعيه، فوصفه به مجاز عقلي، إذ المشكور المرضي عنه، وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة، ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه.والتعبير بـ {كان} في {كان سعيهم مشكورًا} للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل، أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلًا والثواب آجلًا. وقد جمع كونه مشكورًا خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله.{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}.تذييل لآية {من كان يريد العاجلة إلى آخرها} [الإسراء: 18]. وهذه الآية فذلكة للتنبيه على أن الله تعالى لم يترك خلقه من أثر رحمته حتى الكفرة منهم الذين لا يؤمنون بلقائه فقد أعطاهم من نعمة الدنيا على حسب ما قدر لهم وأعطى المؤمنين خيري الدنيا والآخرة. وذلك مصداق قوله: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] وقوله فيما رواه عنه نبيُّه: «إن رحمتي سبقت غضبي». وتنوين {كلا} تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل الفريقين، وهو منصوب على المفعولية لفعل {نمد}.وقوله: {هؤلاء وهؤلاء} بدل من قوله: {كلا} بدل مفصل من مجمل. ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». والمقصود من الإبدال التعجيب من سعة رحمة الله تعالى.والإشارة بـ {هؤلاء} في الموضعين إلى من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة. والأصل أن يكون المذكور أولَ عائدًا إلى الأول إلا إذا اتصل بأحد الاسمين ما يعين معاده.وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس: والإمداد: استرسال العطاء وتعاقبه.وجعل الجديد منه مددًا للسالف بحيث لا ينقطع.وجملة {وما كان عطاء ربك محظورًا} اعتراض أو تذييل، وعطاء ربك جنس العطاء، والمحظور: الممنوع، أي ما كان ممنوعًا بالمرة بل لكل مخلوق نصيب منه.{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}.لما كان العطاء المبذول للفريقين هو عطاء الدنيا وكان الناس مفضلين فيه على وجه يدركون حكمته لفت الله لذلك نظر نبيه عليه الصلاة والسلام لَفْتَ اعتبار وتدبر، ثم ذَكَّرَهُ بأن عطاء الآخرة أعظم عطاء، وقد فضل الله به المؤمنين.والأمر بالنظر موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ترفيعًا في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره.والنظر حقيقته توجه آلة الحس البَصري إلى المبصر.وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما، فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار، ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن، وهو هنا كذلك.وفد تقدم نظيره في قوله تعالى: {انظر كيف يفترون على الله الكذب} في [النساء: 50] و{كيف} اسم استفهام مستعمل في التنبيه، وهو معلّق فعلَ {انظر} عن العمل في المفعولين.والمراد التفضيل في عطاء الدنيا، لأنه الذي يدركه التأمل والنظر وبقرينة مقابلته بقوله: {وللآخرة أكبر درجات}.والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد، وقد يفضل المسلم فيه الكافر، ويفضل الكافر المسلم، ويفضل بعض المسلمين بعضًا، وبعض الكفرة بعضًا، وكفاك بذلك هاديًا إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة.ونصب {درجات} و{تفضيلًا} على التمييز لنسبة {أكبر} في الموضعين، والمفضل عليه هو عطاء الدنيا.والدرجات مستعارة لعظمة الشرف، والتفضيل: إعطاء الفضل، وهو الجدة والنعمة، وفي الحديث: «ويتصدقون بفضول أموالهم» والمعنى: النعمة في الآخرة أعظم من نعم الدنيا.{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}.تذييل هو فذلكة لاختلاف أحوال المسلمين والمشركين، فإن خلاصة أسباب الفوز ترك الشرك لأن ذلك هو مبدأ الإقبال على العمل الصالح فهو أول خطوات السعي لمريد الآخرة، لأن الشرك قاعدة اختلال التفكير وتضليل العقول، قال الله تعالى في ذكر آلهة المشركين {وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101].والخطاب للنبيء تبعٌ لخطاب قوله: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} [الإسراء: 21].والمقصود إسماعُ الخطاب غيره بقرينة تحقق أن النبي قائم بنبذ الشرك ومُنْح على الذين يعبدون مع الله إلهًا آخر.و{تقعد} مستعار لمعنى المكث والدوام.أريد بهذه الاستعارة تجريد معنى النهي إلى أنه نهي تعريض بالمشركين لأنهم متلبسون بالذم والخذلان.فإن لم يقلعوا عن الشرك داموا في الذم والخذلان.والمذموم: المذكور بالسوء والعيب.والمخذول: الذي أسلمه ناصره.فأما ذمه فمن ذوي العقول، إذ أعظم سُخرية أن يتخذ المرء حجرًا أو عُودًا ربًا له ويعبده، كما قال إبراهيم عليه السلام {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95]، وذمهُ من اللّهِ على لسان الشرائع.وأما خذلانه فلأنه اتخذ لنفسه وليًا لا يغني عنه شيئًا {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر: 14]، وقال إبراهيم عليه السلام {يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا} [مريم: 42]، وخذلانه من الله لأنه لا يتولى من لا يتولّاه قال: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن لكافرين لا مولى لهم} [محمّد: 11] وقال {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 50]. اهـ.
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم. ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلهًا آخر، وأنه لا يقعد مذموماَ مخذولًا.ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم-. اهـ.
|